لماذا لا يمكن لدار الفتوى أن تكون كـ”بكركي”؟

لبنان عربي – سامر زريق
منذ علا صوت البطريرك الراعي صادحاً بالحياد في مواجهة حزب الله وسلاحه، إنبرت نخب سنية لإنتقاد غياب دار الفتوى عن الساحة الوطنية.
وكان لهذه المواقف وقع سيء في الشارع السني الذي ساده شعور بالحسرة، خاصة وهو يشاهد بكركي تتحول إلى مركز استقطاب وطني، ومحجة لكل معارضي تحول لبنان إلى قطعة من الإمبراطورية الفارسية التي يتم العمل منذ سنوات على إعادة بعثها من جديد.
في المقلب الآخر من الصورة، تتعرض دار الفتوى، حالها حال المرجعيات الدينية الأخرى، إلى انتقادات من قبل نخب وازنة تنادي بالدولة المدنية، ومنهم من يطالب بالدولة العلمانية الكاملة للخروج من نفق الطائفية المقيت.
وهذه الفئة لا تترك فرصة الا وتوجه فيها السهام نحو رجال الدين خاصة السنة منهم.
ما يضعنا أمام مشهد متناقض بالكامل: فئة تتحسر على دور غائب، وفئة تهاجم تدخل المشايخ في السياسة.
لا شك إن في وجدان كل سني رغبة في أن تلعب دار الفتوى دوراً ريادياً على الساحة السياسية، وأن تنبري للزود عن ابنائها في مواجهة جنون الهويات الطائفية المستعر في البلاد، حيث بات الجميع يستسهل التصويب على السنة لأنهم الطرف الأضعف في المعادلة.
لكن الرغبة شيء والقدرة شيء آخر. فالدار بمعزل عن شخصية سيدها لا تستطيع القيام بدور سياسي لأسباب عديدة. ومن الظلم بمكان أن يطلب منها سلوك طريق بكركي.
تفتقد دار الفتوى في تكوينها ونظامها الى الإستقلالية التي تتميز بها بكركي، وهي تعد امتداداً للسنة في المنطقة وتخضع لتأثير كبرى الحواضر الإسلامية التاريخية، مثل مكة والقاهرة، وبالتالي ليس لديها هامش حرية الحركة خارج الإجماع الإسلامي والعربي.
كما أنها محليا تتبع مباشرة لرئاسة الحكومة، ونظامها الداخلي يفتح الباب على مصراعيه أمام تدخلات السياسيين في إختيار مفتي الجمهورية ومفتي المناطق. ولأن الامر كذلك، يجد كل موقف صادر عن دار الفتوى معارضة سياسية من قبل الأفرقاء السنة المعارضين لمن يتبوأ سدة الرئاسة الثالثة.
إضافة إلى ذلك، هناك جو عام في الشارع السني يزدري المشايخ ويسخر منهم بفعل تصرفات ثلة قليلة منهم.
ويسهم عدم مسؤولية دار الفتوى عن جميع المساجد على الأراضي اللبنانية، في وجود منابر تصدح بالمعارضة ضدها، وتتاح الفرصة لظهور جماعات راديكالية لا تعترف أصلاً بسلطة الدار.
كل هذه العوامل ساهمت في خلق رأي عام سني ضاغط ضد دار الفتوى ومعادٍ في بعض الأحيان حيث يصار إلى إتهام المفتين بأنهم “شيوخ السلطان” .
ومن المؤسف أن ينبري بعض السياسيين من وزراء ونواب ونشطاء، ومعهم بعض النخب في إنتقاد آداء دار الفتوى وتقاعسها، فهم يعلمون أكثر من غيرهم حجم التعقيدات والتوازنات التي تحكم عمل الدار، وعوضاً عن المرثيات والبكائيات التي تصدر عنهم وعن الإعلام الدائر في فلكهم، والتي تسهم في شحن أبناء الطائفة ضد الدار، يجب عليهم تقديم مشروع قانون لإستقلالية دار الفتوى التنظيمية والإدارية والمالية عن رئاسة الحكومة، في حال أرادوا أن يكون لها دوراً سياسياً ووطنياً، لكن احداً لن يبادر الى مثل هذا الإقتراح، فلا يوجد من يريد الاستقلالية لدار الفتوى، الكل يريد استخدامها مطية للوصول الى أهدافه السياسية.
هاكم مقارنة بسيطة، في عام ٢٠١٥ جمع البطريرك الراعي الاقطاب الموارنة الأربعة، وحصر الترشح للرئاسة الشاغرة بهم وحدهم، تحت شعار الرئيس القوي، فاستجاب جميع الأفرقاء على الساحة السياسية صاغرين لرغبة بكركي، وصولاً الى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
فهل يستطيع مفتي الجمهورية جمع أقطاب الطائفة السنية، وفرض حصر الترشح للرئاسة الثالثة بهم؟ وهل تستجيب القوى السياسية لرغبة دار الفتوى في حال حصل ذلك؟
أعتقد أن الجواب معروف، أول المعارضين وأشرسهم سيكون واحداً من الحاضرين، وسيعمل على حشد رأي عام يسفّه الدار وأفعالها.
يستذكر الشارع السني المفتي الشهيد حسن خالد بحسرة وألم، لكن إستشهاده كما إستشهاد الشيخ صبحي الصالح يشكلان تذكرة وعبرة لكل شيخ أو مفتي بوجود خطوط حمر يُمنع على دار الفتوى تخطيها.
فسيد الدار لم يمتلك يوماً حصانة دولية مثل الحصانة التي يتمتع بها أقرانه في سائر الملل خاصة بطريرك الموارنة.
دار الفتوى اليوم هي في مرمى تصويبات الجميع، ملتزمين دينياً وماديين.
وعلى من يريد لها دوراً وطنياً بعيداً عن زواريب السياسة عليه أن يقاتل لإقرار قانون إستقلالية دار الفتوى، وإبعاد السياسيين عن عضوية المجلس الإسلامي الشرعي، وحصر العضوية فيه بالعلماء حيث شهاداتهم هي تأشيرتهم للدخول اليه، كما يجب ان تكون جميع المساجد والجمعيات الدينية تحت إشراف دار الفتوى، لكي لا يكون للجماعات الراديكالية مساجد ومنابر تشجع على التطرف، بعد ذلك نستطيع أن ننتقد دار الفتوى سواء لتخاذلها أم لتدخلها في السياسة.