17 تشرين: الانقلاب على الانقلاب
لبنان عربي – سامر زريق
ثمة لحظات تصنع تاريخاً، يصير بذاته حداً فاصلاً بين ما سبق وما لحق. تواريخ أُريد لها أن تكون شيئاً معاكساً تماماً لما أضحت عليه.
انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 من أبرز تلك اللحظات. هو تاريخ لما كان يُفترض أن يكون انقلاباً سياسياً، فتحول بفضل الشعب وبعفويته، الى انقلاب على ذاك الانقلاب.
منذ كانت 17 تشرين والكلام كله يدور حول ماذا يريد الناس. ومن بعدها لماذا فشلت الثورة، وأين أصبحت الآن، وأين هم الثائرون والثائرات والمنتفضين. لم يطرح أحد السؤال الأساس، كيف حدثت تلك الانتفاضة أو الثورة، وذلك لأن الجميع ربطها بقرار استحداث رسم على تطبيق “الواتساب”.
بيد أن ذلك السؤال أو السبب غير صحيح، أو جواب منقوص ومجتزأ. فما كان لرسمٍ أن يصنع ثورة، وها نحن نعاني من انهيار نقدي، وأزمة اقتصادية وإجتماعية خانقة ومُهْلكة، وريح 17 تشرين قد خبت، ولا يبدو أن هناك أمل بإعادة استنهاضها، رغم كل العوامل التي تساهم بصنع ثورات متصلة لا ثورة واحدة.
رسم “الواتساب” الشهير ذاك، كان الحلقة الأخيرة في مسلسل التحريض والتحضير الذي يسبق الحدث، أي الانقلاب.
فقبل أشهر من 17 تشرين، وهناك حملة على الخطة الاقتصادية لحكومة الرئيس سعد الحريري، من قِبَل حزب الله والتيار الوطني الحر بشكل رئيسي. حملة اشتد وطيسها في الأيام الأخيرة التي سبقت 17 تشرين، وكانت جريدة الأخبار رأس الحربة فيها، حيث أفردت صفحاتها للتصويب على تلك الخطة وشيطنتها، والتهويل من بنودها المجحفة وضرائبها ورسومها، والتي ندفع اليوم أكثر منها أضعافاً مضاعفة، هذا وعلى الرغم من أن الخطة كانت بالاتفاق مع صندوق النقد، ولم تكن من اختراع فريق الحريري الاقتصادي.
كانت تلك الحملة تروم التسويق للحظة الانقلابية، ليس من أجل التخلص من الحريري فقط، فهو ذاتاً منزوع التأثير والفاعلية بسبب التهام الرئاسة الأولى للثالثة، بل للقبض على كل السلطة، والتخلص من القوى التي يرى الطرفان أنها يجب أن تنتهي، أو على الأقل ينبغي تحجيمها وإخراجها من السلطة من الباب الضيق، وهي الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل ومعهما القوات. وبهذه الطريقة ينتهي الطائف عملياً، ويتم فرض نظام جديد كأمر واقع، وبشرعية إنقلابية بلبوس ثوري.
حتى رسم الواتساب الشهير إياه، تم افتعال أكبر حملة تضليل بشأنه، غطت على كل الحقائق المثبتة في محاضر إجتماعات الحكومة، في خضمّ مناقشة حزمة من الإجراءات الضريبية في مشروع موازنة 2020. فالجميع كانوا موافقين على الرسم المُقْترح من قبل ممثل المردة وزير الأشغال وقتها يوسف فنيانوس، من حزب الله والتيار الوطني الحر، مروراً بالقوات وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. الطريف أن وزير الاتصالات محمد شقير، شرب مقلب الرسم لوحده، ولا يزال يعاني من آثاره حتى اليوم.
وبعد أن استوت تلك الحملة، وجُعلت ضريبة “الواتساب”، المسمار الأخير في نعش النظام المهلهل، آن أوان القطاف، حسب التوقيت المُتّفق عليه بين حزب الله والتيار الوطني الحر، فما كاد يُقر الرسم حتى نزل الناس الى الشوارع.
ينبغي التدقيق ملياً في أحداث وتفاصيل الساعات الأولى من 17 تشرين، والتي يُراد التعتيم عليها، وكذلك الأيام القليلة التي سبقتها.
فقبل 17 تشرين بأيام، إجتمع أمين عام حزب الله حسن نصر الله بالوزير جبران باسيل لمدة سبع ساعات. تلى ذلك إعلان باسيل عزمه زيارة دمشق رسمياً، وخطابه في ذكرى 13 تشرين وحديثه الشهير عن قلب الطاولة.
وفي 14 تشرين الأول، عنونت جريدة الأخبار: “باسيل الى دمشق، وحزب الله الى الشارع لمواجهة المصارف”. وأوردت بأن القرار إتّخذ، وأن التيار الوطني الحر قرر عدم الوقوف على خاطر أحد، وعدم الأخذ بعين الاعتبار غضب السعودية (حرفياً).
وعندما اندلعت الانتفاضة، كانت جميع الحملات الأولى موجهة ضد أمل والتقدمي والمستقبل حصراً. في البداية تم التعرض للوزير أكرم شهيب دون غيره، ثم الهجوم على مكاتب نواب من حركة امل، في سابقة فاجأت الحركة ورئيسها، وبالطبع التظاهر امام السراي الحكومي.
ليس معنى ذلك أن الشابة التي وجهت الضربة الشهيرة الى أحد مرافقي شهيب كانت متآمرة، بل هي جزء من غضب شعبي ضد جميع أركان الحكم، كان مكبوتاً وانفجر بفعل فاعل، وأراد حزب الله والتيار الوطني الحر توجيهه وحصره بخصومهم.
ولعدم إثارة الفتنة في الشارع الشيعي، حدثت نوع من الموازنة بأن قام أشخاص مجهولين (!) بالهجوم على مكتب رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، ونواب آخرين من الحزب، في حوادث لم يُعرف فاعلوها، رغم أننا في لبنان اعتدنا على تقديم البعض اعتذار من “كعب صبّاط السيد” لأبسط من ذلك بكثير.
ولذلك، ران صمت ثقيل على القوى السياسية في البداية، وبالتحديد الرئيس بري وجنبلاط وجعجع، وكان الرئيس الحريري ممتقعاً في إطلالته المتلفزة، وتحدث عن تسليم هادئ للسلطة. لم يكن يوجه كلامه الى المنتفضين، بل كان يقصد حزب الله والتيار الوطني الحر.
وللتذكير فقط، فإن قطع الطرقات انطلق من ساحة رياض الصلح، وشمل فيما شمل، طريق المطار، والتي بقيت مقفلة ثلاثة أيام متتالية، حتى أتى أمر الحزب إياه، ففُتحت، ولم تُقطع أبداً.
كما أن أنصار الثنائي (العونيون- حزب الله) هللوا تهليلاً عظيماً للانتفاضة في ساعاتها الأولى عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
وللتذكير أيضاً، فإن جنبلاط طلب من الحريري، “أن نستقيل معاً، وليحكموا هم، والرسالة وصلت”، وأن استقالة وزراء القوات أتت في اليوم الثالث، لركوب الموجة، فالثلاثة قبلاً كانوا يعدونها انقلاباً.
بيد أن السحر انقلب على الساحر، فالثنائي حزب الله والتيار الوطني الحر، ما كانا يتوقعان أبداً أن يُفلت زمام الأمور من بين أيديهما، وأن تخرج الإحتجاجات عن الإطار الذي رسماه، وتتحول الى انتفاضة شعبية ضخمة عمت كل المناطق اللبنانية، من أقصاه الى أقصاه، وفي وجهيهما قبل الباقين.
إن مراجعة عناوين جريدة الأخبار في الأيام التي تلت 17 تشرين كفيل لوحده بالتعبير عن هذه الحقيقة المُغيّبة. في الأيام الثلاثة الأولى ترحيب وتهليل ودعم، بمقالات ثورية نوعية، مثل مقالة مدير التحرير حسن عليق عن 17 تشرين، “المعركة التي لا يمكن أن نخسرها”.
بعدها، في 22 تشرين الأول عنونت “الحراك مهدد”، ثم تحولت الى اتجاه مناقض تماماً بعد إشارة أمين عام حزب الله، وفي 26 تشرين عنونت “لبنان ينقسم”.
كانت 17 تشرين انقلاباً سياسياً خبيثاً، فأصبح انتفاضة أو ثورة شعبية، لتصير لحظة تاريخية خالدة، سطّرها الشعب بنفسه في تاريخ بلاده المليء بالعار والحروب العبثية، أملاً بغد أفضل.
ولذلك تناسلت المجموعات الثورية لتصبح بالعشرات، لأن 17 تشرين كانت عفوية وصادقة، ولم تكن من صنع أحد من المدّعين، الجميع كانوا مشاركين وليسوا بصانعين.
ولذلك أيضاً، يجب على الحريري أن يكون ممتناً للغاية من 17 تشرين، لأنها أنقذته من انقلاب، الله وحده يعلم مآلاته، وما كان مصير الحريري حينها، لا كما يردد مناصري تياره، الأشبه بأيتام حزب البعث السوري، بأن 17 تشرين كانت مؤامرة على الحريري فقط.
والحال عينه ينطبق على الرئيس بري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، الذين أنقذتهم 17 تشرين من مقصلة انقلاب ساهموا أنفسهم بتعبيد طريقه، بالشعبوية المبالغ فيها والازدواجية كما في قضية رسم “الواتساب”، لكنهم عادوا واستدركوا فيما بعد كل بأسلوبه، واحد تشدد وثانٍ منع وثالث تماهى مع المنتفضين، واستطاعوا لم شعث جمهورهم على الأقل.
لم تكن 17 تشرين سوى انقلاب على الانقلاب، ولا شيء آخر، فلا تحملوها أكثر بكثير مما تحتمل.