لبنان عربي – عزام حدبا
تخيل نفسك جنينا مكورا على نفسه في رحم أمه، وتخيل إنك تملك من الوعي ما يكفي لكي تسأل نفسك الأسئلة المصيرية: أين أنا؟؟ من أين جئت؟؟ وإلى أين المصير؟؟
ستتصدى للسؤال الأول فتجد نفسك سابحا في ظلمات ثلاث تشكل لك الكون كله، ستضع جانبا السؤال الثاني حينما تعجز عن العثور على أي خيط للجواب، ويبقى السؤال الثالث: “إلى اين؟؟”
سيؤرق هذا السؤال مضجعك فالمصير مجهول بالنسبة لك وإن كنت تدرك يقينا أن لا مجال لتبقى هنا، فعالمك (أي الرحم) صغير جدا عليك وأنت تكبر يوما بعد يوم بشكل تدرك فيه يقينا أنه لن يتسع لك، هذا عنك.. فماذا عن الخارج؟؟
في الخارج لا يدركون معاناتك، هم ينتظرون قدومك المرتقب على أحر من الجمر، يجهزون لك أجمل الثياب والهدايا والألعاب، يعدون الأيام بشكل عكسي، الشهر التاسع معناه أن الولادة قد أزفت وأن المولود الذي طال انتظاره سيبصر النور قريبا، هذا بالنسبة لهم، أما بالنسبة لك فالولادة بداية النهاية، بداية الاقتراب من المجهول الذي كنت تخشاه وتدرك في الوقت نفسه أن لا مفر منه.
وحينما يأتي هذا اليوم ستبكي بكاء مرا، ستخاف وتجزع وتتألم، سيتغير كل شيء من حولك، ستخرج إلى عالم أوسع ولكن مخيف ومرعب فأنت لم تعتد إلا الرحم، جسدك لم يعتد إلا شعور الأمان في السباحة فيه، النور أقوى من أن تتحمله عيناك، والتنفس مباشرة من الهواء أمر لم تعتده الرئتان بعد، سيدوم هذا الشعور بضعة ثوان ثم تبتسم..
ما جئت لأتحدث اليوم عن البيولوجيا وعلم الأجنة، إنما عن الموت: هذا البعبع المرعب الذي يخيفنا ويحزننا ويصدمنا ويقهرنا، واسأل نفسي واسألكم: ماذا لو كنا أجنة في رحم الحياة، وكان الموت هو بوابتنا للعالم الآخر؟؟ ماذا لو كان الموت ولادة؟ ماذا لو كان هناك من ينتظرنا في العالم الآخر على أحر من الجمر؟
ماذا لو كانت أعوام الشيخوخة التي نضيق ذرعا بها ونتأفف منها هي العد العكسي للولادة الحقيقية؟ وماذا لو كان المسن محظوظا لأنه أقرب منا للخلاص من سجن الرحم الضيق؟
قد يبدو ما أقوله غريبا في نظر الجنين، فكل ما حوله لا يوحي بما أقول، وقد يتشكك في كلامي ويسألني إن كنت أمتلك أي دليل حسي على هذا العالم الآخر الذي ينتظرنا؟؟
فأجيبه: حاول أن تتحسس – من داخل الرحم- لمسة أمك الحانية على رأسك، استمع وأنصت – من داخل الرحم- لصوتها الملائكي العذب يخترق جدرانه ليصل الى أذنيك، أنظر إلى الأعضاء المعقدة في جسمك والتي لا تملك أي جدوى حتى هذه اللحظة، هل خلقت عبثا؟؟
ام خلقت لعالم آخر ككل الأحلام التي نحملها في قلوبنا وعقولنا عن العدل المطلق، عن السعادة التي لا تنغص، والخلود الذي لا ينقطع.
لا ادري لأي مدى يحمل هذا التشبيه من جديد لكم، فكثير منا مؤمنون بالبعث، مع ذلك قلة منا يحاول أن ينظر للأمور من منظار أخروي، أكثرنا يترك إيماننا بالبعث باردا ومقطوعا عن أي مشاعر حارة تحييه داخل القلب والوجدان.
حالنا في حال هذه الدنيا كتوأم يرقب أخاه يخرج من الرحم قبله فيتحسر لفراقه ويبكي ويضرب برأسه على جدران الرحم، علام يفعل هذا وهو ملاقيه بعد لحظات؟؟ وعلام الجزع؟؟ أنتم السابقون ونحن اللاحقون، ومن آمن بالله وعمل صالحا فلا خوف عليه، علينا أن نكون سعداء لتحرر توأمنا من سجنه وانقضاء محكوميته ونتيقن إنه الآن في عالم أوسع وأكبر، في العالم الذي خلق لأجله.
أكثرنا يزور القبور ويظن إنه يزور فيها أحبائه، هذا حاله كمن ينشغل عن حبيبه بخرقة بالية لبسها هذا الحبيب يوما، زيارة القبور للعظة فقط، للتفكر في الحياة القصيرة في رحم الحياة وللتفكر في حتمية الموت (الولادة(. وتذكر جيدا أن حبيبك – إن كان صالحا- لا يعيش تحت الأرض، إنما في جنة وسعها السموات والأرض.
الخلاصة
في كل مرة تنظر فيها للموت ولفراق الأحبة وألمهم ومعاناتهم وتدهور صحتهم تذكر هذا المثال، وفي كل مرة تتعاطف مع (أو تسخر من) الشيخوخة والزهايمر والخرف تذكر هذا المثال أيضا، تذكر إنه في خارج رحم الدنيا هناك عالم أكبر وأوسع هو العالم الحقيقي، وفيه أناس لهم نظرة مختلفة تماما عنك وتقييم مختلف تماما عنك حتى في التفاعل مع الحدث نفسه.
ليس هذا فحسب بل كن على ثقة أن هذه النظرة هي النظرة الحقيقية التي ستتبناها يوما ما، عاجلا أم آجلا، حينها ستنجلي كل غشاوة عن عينيك وترى الأمور على حقيقتها..
ختاما لا أدعي إني تجردت تماما من الحزن واليأس والإحباط مع تقدم العمر ومع مفارقة الأحبة، فأنا مثلكم لا زلت أسير رحم الحياة أو الدنيا ولكني أقول إني أملك في وجداني نسخة أخرى من الواقع ألجأ اليها -حينما تنتابني تلك المشاعر- متقينا إنها الواقع الفعلي، قد تعيش فكرة الواقع الفعلي للحظات في خاطري قبل أن تذوي وأعود لأغرق في دوامة الحياة ولكنها ستكون لحظات كافية لي كي أجدد طاقة الصبر والتسليم والأمل.